اقتصاد الأعياد في سوريا: حين تتحوّل المناسبة إلى عبء معيشي
لبنانون فايلز -

مع حلول موسم الأعياد الميلادية ورأس السنة، يفترض أن تنشط الأسواق وتزداد حركة الاستهلاك، باعتبار الأعياد مؤشراً تقليدياً على المزاج الاقتصادي العام. إلا أن المشهد في سوريا نهاية عام 2025 يبدو مختلفاً تماماً؛ إذ لا تعكس الأسواق أي تحسّن فعلي في الطلب الاستهلاكي، بقدر ما تكشف عمق الأزمة المعيشية واتساع الفجوة بين الدخل والأسعار، في ظل تضخم مستمر وبطالة متصاعدة، جعلت من العيد مناسبة رمزية أكثر منها موسماً اقتصادياً.

مؤشرات رقمية وتحسن محدود

وفق بيانات مؤشر أسعار المستهلك الصادرة عن المركز السوري لبحوث السياسات، سجل المؤشر في شباط 2025 انخفاضاً شهرياً بنسبة 2.9. وبحسب تصريحات حاكم مصرف سوريا المركزي عبد القادر الحصرية، شهد معدل التضخم في سوريا تحسّناً ملموساً خلال العام 2025 بعد سنوات من الضغوط الاقتصادية. وأشار الحصرية إلى أن "السياسات النقدية واستقرار سعر الصرف والعمل على ضبط الكتلة النقدية كانت من أولويات المصرف، ما ساهم في خفض معدل التضخم إلى مستويات مقاربة لـ 15% مقارنة بمعدلات أعلى في السنوات السابقة، وهو ما يظهر تقدماً في مؤشرات الأسعار رغم استمرار التحديات الاقتصادية".

في المقابل، سجلت أسعار الملابس والأحذية، التي تشكل عنصراً رئيسياً في إنفاق موسم الأعياد، انخفاضاً بنسبة 8.8% مقارنة بشهر كانون الثاني مدفوعة بزيادة المعروض من الملابس المستوردة والمستعملة، وتراجع الطلب نتيجة ضعف القدرة الشرائية؛ إلا أن تجاراً في دمشق وحلب يؤكدون أن كلفة المعيشة المرتفعة ما تزال محسوسة يومياً، ما يجعل تجربة المستهلك محكومة بدخله الفعلي أكثر من المؤشرات الإحصائية.

قدرة شرائية شبه معدومة

يصف أمين سر جمعية حماية المستهلك عبد الرزاق حبزة في حديث لـ"المدن" واقع القدرة الشرائية للمواطن السوري بأنها لم تعد "ضعيفة" كما كان يقال سابقاً، بل باتت أقرب إلى العدم: "فارتفاع تكاليف المعيشة مقابل انخفاض الدخل، إلى جانب أعباء الشتاء من تدفئة وملابس شتوية ومدارس ومؤونة، يستهلك كامل دخل الأسرة، ويجعل التفكير بالإنفاق على الأعياد أمراً خارج الحسابات"؛ من وجهة نظر حبزة، لم يعد المواطن يبحث عن مظاهر الفرح بقدر ما يسعى لتأمين الحاجات الأساسية فقط.

هذا التوصيف يلتقي مع قراءة الخبير الاقتصادي ورئيس مجلس النهضة السوري عامر ديب، الذي يرى في حديثه مع "المدن"، أن موسم الأعياد هذا العام لا يعكس أي تحسّن حقيقي في الطلب الاستهلاكي، بل يعكس إعادة ترتيب قسرية للإنفاق، إذ اقتصرت الاحتفالات على بعض الفعاليات العامة وقلة من الأسر الميسورة. ويعتبر ديب أن ما يجري ليس نمواً اقتصادياً، بل إدارة اضطرارية للنفقات في ظل تراجع الدخل وازدياد مؤشرات البطالة واتساع الفجوة بين الأسعار ومستوى المعيشة.

فوضى الأسعار.. ودمشق بالصدارة

على مستوى الأسعار، تكشف جولات جمعية حماية المستهلك، بحسب حبزة، عن تفاوت كبير بين المحافظات، بل داخل المحافظة الواحدة، وخصوصاً في دمشق التي تشهد كثافة سكانية متزايدة نتيجة انتقال أعداد كبيرة من محافظات أخرى وعودة مهاجرين من الخارج. هذا الواقع أدى إلى ارتفاع كبير للأسعار في العاصمة، مع فروقات بين سوق وآخر تتجاوز 50 و60 في المئة، وقد تصل في بعض السلع إلى 100 في المئة.

ويربط عامر ديب هذا التفاوت بعوامل لوجستية وطبيعة السلع نفسها، فالمناطق الزراعية تختلف عن غير الزراعية، والمناطق الصناعية تختلف عن المناطق البعيدة عن مراكز الإنتاج. إلا أن هذه الفوارق، برأيه، لا تبرر حالة الفوضى السعرية القائمة، ولا غياب ما يسميه "العدالة السعرية" بين منطقة وأخرى.

سوق حر بلا ضوابط

يُجمع الطرفان على أن الانتقال إلى نظام السوق الحر تم بشكل مفاجئ وغير منظّم. حبزة يرى أن المستهلك كان معتاداً على وجود تسعيرة واضحة، حتى لو شابها بعض الغبن، بينما وجد نفسه اليوم في سوق مفتوحة من دون أدوات حماية حقيقية. ورغم أن المنافسة هي جوهر السوق الحر، إلا أن ما حدث فعلياً هو نشوء أشكال من الاحتكار، خاصة مع وجود تواصل بين تجار الجملة والمفرق عبر مجموعات مغلقة، يتم من خلالها رفع الأسعار بشكل شبه يومي.

عامر ديب يذهب أبعد من ذلك، معتبراً أن بعض التجار لم يعودوا يتصرفون كتجار، بل كـ"صرافين" يمارسون المضاربة على السلع. فرغم أن ارتفاع سعر الصرف بنسبة تتراوح بين 4 و6 في المئة لا يفترض أن ينعكس مباشرة على الأسعار، إلا أن الواقع يُظهر زيادات تصل إلى 10 و12 في المئة عند أي ارتفاع، مقابل خفض محدود لا يتجاوز 2 في المئة عند تراجع سعر الصرف.

ويشير إلى أن سعر الصرف انخفض مؤخراً من حدود 12400 إلى 11300 ليرة، بينما لا تزال السلع تُسعّر على أساس 11800، متسائلاً عن دور الدولة في هذا الخلل.

سعر الصرف المرن… ضرورة بلا فوضى

في مقاربته النقدية، يعلن ديب تأييده لسعر الصرف المرن، ورفضه لسعر الصرف الثابت في ظل الوضع الاقتصادي المتذبذب، معتبراً أن تحديد هامش حركة بين 4 و6 في المئة هو خيار صحي. إلا أن المشكلة، برأيه، لا تكمن في مرونة السعر بحد ذاتها، بل في سوء تطبيقها داخل الأسواق وغياب الالتزام بها، ما يفتح الباب أمام استغلال المستهلك.

من جانبه، يشير حبزة إلى أن التاجر يحمّل المستهلك كلفة المخاطر، رافعاً أسعاره تحسباً لأي تغير في سعر الصرف، في ظل الفجوة بين السعر الرسمي والسعر الواقعي. هذا السلوك، بحسب حبزة، يُفرغ فكرة السوق الحر من مضمونها، ويحوّلها إلى عبء إضافي على المستهلك.

غياب الدولة… ورقابة بلا أدوات

يتفق الخبيران على أن مفهوم السوق الحر لا يعني غياب الدولة. حبزة يوضح أن دور الرقابة الحكومية بات محصوراً بعدم الإعلان عن الأسعار، والغش، وانتهاء الصلاحية، من دون أي قدرة على ضبط الأسعار أو هوامش الربح. كما يشكك في صدقية العروض المنتشرة خلال موسم الأعياد، معتبراً أن كثيراً منها ينطوي على غبن في الجودة أو النوعية.

أما ديب، فيؤكد أن أي اقتصاد حر من دون تدخل الدولة هو "فقاعة"، مشيراً إلى أن دولاً كبرى مثل الولايات المتحدة والإمارات تضع هوامش ربح وتتابع الأسواق عند حصول اختلالات؛ ويرى أن حماية المستهلك، والدخل، والمدخرات، وإعادة التوازن الاقتصادي، ليست خيارات بل واجبات على الدولة، وأن غياب هذا الدور يترك السوق نهباً للفوضى.

العيد كحالة اجتماعية لا مؤشر اقتصادي

رغم كل ذلك، يلفت ديب إلى أن سلوك المستهلك في الأعياد يبقى مختلفاً، إذ تمثل المناسبات مساحة نفسية للإنفاق المؤقت، حيث ترفع العائلات مصروفها خلال العيد ثم تعود إلى التقشف بعده. لذلك، لا يمكن اعتبار موسم الأعياد مؤشراً دقيقاً على التعافي أو الركود في الحالة السورية، بل يجب النظر إلى مؤشرات الدخل السنوي، والبطالة، وأسعار المستهلكين لتقييم الوضع الاقتصادي الحقيقي.

وفي المحصلة، يكشف اقتصاد الأعياد في سوريا عن واقع اقتصادي هش، تُثقل فيه الأسعار كاهل المستهلك، ويتراجع فيه الطلب الحقيقي، بينما تتقدم المناسبات على حساب الضروريات مؤقتاً. وبين سوق حر بلا ضوابط ودولة غائبة عن دورها التنظيمي، يبقى العيد مرآة لأزمة أعمق، لا تُحل بالعروض الموسمية ولا بمرونة سعر الصرف وحدها، بل بسياسات تعيد التوازن بين الدخل، الأسعار، وحماية المستهلك.

رهام علي - المدن

The post اقتصاد الأعياد في سوريا: حين تتحوّل المناسبة إلى عبء معيشي appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.



إقرأ المزيد