كتبت ميساء عطوي في المدن - يروي أحد المواطنين من سكان منطقة الرميلة، أنّ التعديات على الأملاك البحرية سلبته حقّه في ارتياد الشاطئ العام، حتى الطريق الوحيد الباقي أُغلق بسبب "استثماره" من أحد أصحاب المسابح، فبات الشاطئ رفاهية مشروطة بدفع دخوليّة للمسابح الخاصّة التي تجني أرباحاً طائلة على حساب المواطن وعلى حساب خزينة الدولة.
فمن خلال النظر الى موازنة 2026، تواصل الدولة تراخيها بما يخص الأملاك البحرية، فتفرض على المواطنين 676 مليون دولار سنوياً، بالمقابل تعفي شاغلي الأملاك البحرية من الضرائب وتحرم الخزينة من ملايين الدولارات
فما هي أثار اعفاء الاملاك البحرية من الضرائب على الخزينة العامّة وعلى المواطنين؟ وما هو حجم الأموال التي من الممكن أن تؤمنها هذه الأملاك في حال استحصلت الدولة على مستحقاتها؟

الأملاك البحرية.. آلاف المخالفين بلا رسوم
من أقصى شمال لبنان عند عكار، مروراً بطرابلس والبترون وجونية وبيبلوس، وصولاَ إلى الجنوب عند صيدا وصور وحتى رأس الناقورة، 80% من الشواطئ العامة محجوبة بأسوار ومراسي خاصة.. آلاف الإشغالات غير القانونية تمتد على نحو 6000000 متر مربع، تحرم الأشخاص من حقهم الطبيعي في الوصول إلى البحر وذلك استنادا إلى تقرير جمعية نحن.
في البداية لا بد من فلترة الأملاك البحرية، إذ تنقسم الأملاك العامة البحرية في لبنان بين إشغالات قانونية ومرخّصة بمراسيم، وإشغالات مخالفة للقانون دون أي ترخيص، ويؤكد القانون، في المادة 30 من موازنة 1990، أن الشاغل الفعلي لا يكتسب أي حق مهما طالت مدة الإشغال.
ووفق دراسة الدولية للمعلومات، تتراوح الإشغالات بين مرخصة قبل عام 1975 وبعده حتى 2012، وبدلات الإشغال منخفضة جدا مقارنة بالقيمة الحقيقية للأراضي والمساحات المشغولة تبعاً لموقعها. أما التعديات غير القانونية والتي لا تتقاضى منها الدولة أية بدلات وتحول دون إصدار أي قانون أو مرسوم لتحصيل العائدات التي تقدر بملايين الدولارات سنوياً ما أدى إلى إحجام العديد من المستثمرين عن طلب تراخيص قانونية.
وقد كشفت المفكرة القانونية أن عدد الشاغلين القانونيين لا يتجاوز 56 جهة، فيما يشغل الباقون الأملاك بصورة غير قانونية منذ عقود. وقد تقدّم نحو 583 مخالفًا من أصل 1199 بطلبات لتسوية أوضاعهم بين 2017 و2021، لكن الدولة لم تبتّ في هذه الملفات ولم تُحصّل العائدات المفترضة منها.
بالارقام... جدول مقارنة الإيرادات والنفقات المتعلقة بالأملاك البحرية ومشروع الموازنة

عبر النظر إلى هذا الجدول، يتبيّن أن الإيرادات غير الضريبية الإجمالية من تسويات المخالفات ارتفعت من 1.7 مليار دولار في 2024 إلى أكثر من 2.1 مليار دولار في مشروع موازنة 2026، في حين شهدت الإيرادات المتوقعة من تسويات المخالفات نفسها تراجعا كبيراً من 30 مليون دولار في 2025 إلى 12 مليون دولار فقط في 2026، أي بنسبة انخفاض تقارب 60%
على المقلب الآخر، ارتفعت النفقات المخصصة للتجهيزات مثل المسابح الشعبية والدراسات والمراقبة بشكل كبير، حيث قفزت تجهيزات المسابح من 200 مليون دولار إلى أكثر من 2.6 مليار دولار، وارتفعت كلفة الدراسات والمراقبة من 205 مليون دولار إلى أكثر من 650 مليون دولار خلال سنتين.
وبناءً على هذه الأرقام، نستنتج أن إدارة الأملاك البحرية في لبنان تعاني من خلل مالي وإداري يجعل الموارد العامة عرضة للهدر، إذ أن الزيادة اللافتة في النفقات مقابل تراجع الإيرادات المتوقعة تكشف فجوة مالية وإدارية واضحة، تظهر كيف تتحول الموارد العامة إلى أموال مهدورة بسبب ضعف الرقابة والتخطيط المالي.

حجم التعديات على الأملاك البحرية
إنّ التعديات على الأملاك البحرية تتسبب بخسارة مباشرة للدولة، فوفق الباحث في "الشركة الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين في حديثه إلى "المدن" تبلغ مساحة الإشغالات على طول الشاطئ اللبناني نحو 5200000 متر مربع، يتوزّع نصفها بين إشغالات مرخّصة وأخرى غير مرخّصة، وذلك استناداً إلى المسح الذي أجراه الجيش اللبناني في العام 1994.
أمّا مدير جمعية "نحن" محمد أيوب فيشير في حديث إلى "المدن" إلى أنّ عدد التراخيص القانونية لا يتجاوز الـ 70 وأن عدد التعديات البحرية وفق آخر مسح ميداني أجرته الجمعية عام 2022 يفوق 1100 تعدٍ، وتبلغ مساحة هذه التعديات أكثر من 10 ملايين متر مربع؛ أي 80% من الشاطئ اللبناني.
ويضيف أن الحكومة خالفت القانون عندما منحت هذه المراسيم، لأن جميع التعديات القائمة على الأملاك العامة البحرية غير قانونية وغير مرخصة، باستثناء هذه المراسيم السبعين التي منحتها الحكومة على نحوٍ خاص لإشغال أملاك عامة بحرية
ويتنوع المشهد القانوني للإشغالات، فهناك من استكمل ترخيصه كما هو، ومن حصل على ترخيص جزئي وزاد عليه لاحقًا، ومن لا يحمل ترخيصاً لكنه يمتلك قطعة أرض مواجهة للأملاك البحرية ومستوفية للشروط القانونية، وأيضاً من لا يملك ترخيصاً ولا أرضاً، وهو ما يزيد من تعقيد تحصيل الدولة للرسوم والغرامات وفق شمس الدين.

خسائر 7 مليارات دولار وخفض الرسوم 32%
تفاقم هذه التعديات من الخسائر المالية للدولة، خاصة مع اعتماد تقديرات منخفضة لسعر المتر مقارنة بالقيمة الحقيقية للأرض، كما أوضح مدير جمعية "نحن". فعلى الرغم من أن سعر إيجار المتر من الأرض الواقعة خلف الشاطئ قد يصل إلى 50 دولاراً، يُحتسَب المتر الواقع مباشرة على البحر بأقل من 25 دولاراُ، بالرغم من السماح بالبناء عليه، وهو ما يؤدي إلى إجحاف مزدوج يتمثل في انخفاض قيمة الأرض وطريقة احتساب الرسوم.
وتزداد المشكلة تعقيداُ مع خفض الدولة للرسوم بنسبة 32% مقارنة بالسنوات السابقة، من 800 دولار إلى 536 دولاراً للمتر، وأن الإيرادات الممكنة من الأملاك البحرية تصل إلى 120 مليون دولار سنوياً استناداً إلى المساحات المشغولة وإلى أسعار الأراضي الحقيقية، لكن الدولة تعتمد أسعار الأرض عبر الغرامات المفروضة بنسبة 0.5%؛ أي أقل من الأسعار المعتمدة بنسبة 5% في العقارات المجاورة للأملاك البحرية لذلك تحصّل الدولة فعلياً على 20 مليون دولار فقط، أي أقل من 0.5% من القيمة الحقيقية، وفق ما أفاد به شمس الدين وأيوب
ووفق حسابات أيوب، تراكمت خسائر الدولة منذ عام 1994 إلى نحو 7 مليارات دولار بفعل المخالفات والتعديات التي يرتكبها أصحاب المنتجعات والمؤسسات السياحية على الأملاك البحرية ونتيجة غياب التنظيم والتساهل في تحصيل الرسوم والضرائب، في حين تحولت الأملاك العامة إلى مشاريع خاصة يملكها سياسيون ورجال أعمال بلا "حسيب ولا رقيب".

1100 طلب تسوية و500 منجزة فقط
من جهته أوضح الخبير القانوني كريم ضاهر في حديث إلى "المدن" أنّ الدولة اللبنانية تسعى اليوم إلى تحصيل حقوقها المالية من شاغلي الأملاك العامة البحرية، للاستفادة من مسار التسوية الذي يتيحه القانون 64/2017، الذي نظّم التعديات على الأملاك البحرية مقابل دفع تعويضات مالية وبدلات سنوية لقاء إشغال هذه الأملاك.
وكما كشفت المفكرة القانونية، أشار ضاهر إلى أن مراجعة الطلبات المقدّمة لتسوية الإشغالات على الأملاك البحرية بين عامَي 2017 و2021، تلقّت الدولة 1.199 إلا أنّ الإدارات المختصة لم تبتّ سوى بـِ 583 طلباً، في حين لم يتقدّم عدد كبير من الشاغلين بأي طلب تسوية ولم يسعوا إلى تسديد المتوجّبات المترتبة عليهم. ووفق المعلومات التي نقلها عن مجلس الوزراء، فقد نوقش هذا الملف في جلسات حكومية سابقة، حيث اعتبر بعض الوزراء أنّ المبالغ المحدّدة للتسوية زهيدة، وهو ما دفع الحكومة إلى رفع قيمتها لاحقًا.

ضرائب، غرامات، وسجن حتى سبع سنوات
أوضح ضاهر أنّ هذه التعديات لا تقتصر على مخالفة القوانين فحسب؛ إنما تتصل أيضاً بـالتهرب الضريبي، إذ إنّ كثيرين من الشاغلين يستثمرون الأملاك العامة البحرية في أنشطة تجارية كالمطاعم والمنتجعات السياحية ويحققون أرباحاً كبيرة من دون تسجيلها لدى وزارة المالية، ما يجعلهم القانون متهربين ضريبياً ويتيح هذا التوصيف للدولة ملاحقتهم واسترجاع حقوقها عن السنوات السبع السابقة وفقًا للمادة 43 من قانون الإجراءات الضريبية.
وبيّن ضاهر أنّ وزارة المالية تملك صلاحية فرض ضرائب وغرامات مالية على هؤلاء تشمل ضريبة الدخل وضريبة القيمة المضافة مع غراماتها، وهو ما يمكن أن يدرّ على الخزينة إيرادات كبيرة ويشكّل رادعاً للمخالفين. فالقانون يجيز للوزارة الرجوع سبع سنوات إلى الوراء لإجبار المتهربين على تسديد مستحقاتهم، حيث تُحتسب الغرامات بنسبة 2% شهرياً من دون سقف محدّد، إضافة إلى غرامات تحقق تتراوح بين 10% و100% من قيمة الضريبة.
وفي حال امتناع المكلّف عن الدفع، تمتلك الدولة اللبنانية حق الامتياز العام الذي يمكّنها من الحجز على الأملاك المشغولة أو المملوكة للمخالفين وبيعها في مزادات علنية، أما إذا تبيّن أنّ الأموال المتحصلة من هذه الأنشطة استُخدمت في شراء عقارات أو تحويلات مالية إلى الخارج، فيمكن للدولة ملاحقة أصحابها بتهمة تبييض الأموال، وهي جريمة تصل عقوبتها إلى السجن من ثلاث إلى سبع سنوات وذلك بحسب ضاهر.
وأضاف ضاهر أنّ المرسوم رقم 156 الصادر عام 1983 ينص أيضاً على عقوبة السجن حتى ثلاث سنوات في حالات التهرب الضريبي المتعمّد، ما يمنح وزارة المالية أدوات قانونية فعالة لتحصيل حقوق الخزينة ومحاسبة المخالفين، مؤكداً أنّ تطبيق هذه الإجراءات الصارمة يشكّل خطوة إصلاحية أساسية في النظام الضريبي اللبناني؛ إذ تتيح للدولة أن تضرب مثالًا واضحاً في محاسبة المعتدين على الأملاك العامة والمتهربين ضريبياً، وتُسهم في توسيع القاعدة الضريبية وإدخال العاملين في الاقتصاد غير الشرعي ضمن المنظومة القانونية، بما يعزّز مبدأ العدالة الضريبية ويضع حدًّا لظاهرة التهرّب المستشرية منذ عقود.

طلب معلومات عالق… مكانك راوح
لمتابعة الملفات المتعلقة بالأملاك البحرية والتحقق من معلومات لم تُنشر سابقاً تقدّمنا بطلب رسمي إلى وزارة الأشغال العامة والنقل بموجب قانون حق الوصول إلى المعلومات، طالبنا فيه بنسخة من البيانات والإيضاحات المتعلقة بالإيرادات والرسوم العائدة للأملاك العامة البحرية، إضافة إلى التحصيل في موازنة 2026، وتبيان حالة التعديات والإجراءات المتخذة. بعد مرور ثلاثة أسابيع من دون أي رد حاولنا متابعة الطلب شخصياً لدى الوزارة.
عند الوصول، بدأت تجربة تكشف عن عمق التعقيدات الإدارية، الموظفة المعنية بالملف لم تكن حاضرة، وقد باءت محاولتنا للحصول على رقمها بالفشل، وبعد طول انتظار تمكّنا من لقائها، ليتبيّن أن الطلب ليس بحوزتها وأنه موجود في غرفة ثانية، والتي أحالتني بدورها إلى غرفة ثالثة، حيث أخبروني أن الطلب "لم يتحرك بعد"، ولا يعرف أحد ما إذا تمت الموافقة عليه أم لا، وأوضحوا أنه إذا رغبت بالاستيضاح أكثر، عليّ انتظار المدير العام الذي قد يصل بعد نحو ساعتين.
هذه المماطلة المستمرة والإحالات المتكررة بين الغرف إن دلت على شيء فإنها تدل على أن قانون الحق بالوصول الى المعلومات كما غيره من القوانين الاصلاحية لا يتمّ تطبيقها بل تبقى حبراً على ورق، الأمر الذّي يعيق عملية المراقبة والمحاسبة للسلطات.
إذن، تشكّل قضية الأملاك البحرية العامة نموذجاً فاضحاً لتقاطع شبكة المصالح بين الطبقة السياسية والمنتفعين منها وهي قضية تتعلق بالعدالة الاجتماعية البيئة وحماية المال العام، وحق المواطنين في الوصول إلى الشاطئ العام. ولا يمكن الحديث عن إصلاح مالي أو إنقاذ اقتصادي في لبنان ما لم يُستعد هذا الحق، وتُفرض الرسوم على المعتدين.
* يُنشر هذا التقرير ضمن برنامج تدريبي حول "قضايا الشفافية والإصلاحات المالية والاقتصادية" تنظمه مؤسسة مهارات بالشراكة مع معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي وبدعم من الصندوق الكندي للمبادرات المحلية - CFLI.


