لبنانون فايلز - 11/22/2025 7:24:05 AM - GMT (+2 )
يشهد لبنان منذ بدء الأزمة المالية توسعًا غير مسبوق في الاعتماد على الكاش نتيجة مجموعة عوامل متداخلة جعلت النقد الوسيلة الأكثر أمانًا ومرونة بالنسبة لغالبية الأفراد والشركات.
وعن هذه الأسباب تحدّث للديار الأكاديمي والخبير الاقتصادي الدكتور بيار الخوري، مؤكداً أن أوّلها انهيار الثقة بالقطاع المصرفي بعد فرض قيود غير رسمية على السحوبات والتحويلات، ما تحوّل فعليًا إلى capital controls من دون أي إطار قانوني. فقد تجمّدت الودائع بالدولار، وتقلّصت السحوبات بالليرة، وتراجعت التحويلات إلى الخارج إلى حدّ شبه معدوم، الأمر الذي دفع المودعين إلى إدراك أن النظام المصرفي لم يعد ملاذًا آمنًا، فانتقلوا إلى الاحتفاظ بالنقد وتخزينه خارج البنوك أو استبداله بأصول قابلة للسيطرة المباشرة.
أما السبب الثاني وفقًا للخوري فهو ضعف البنية التقنية للمدفوعات الإلكترونية، سواء لجهة شبكات الدفع أو انتشار نقاط البيع أو خدمات التحويل الفوري. ويشرح: "المصارف والمصرف المركزي تفتقر إلى منظومة رقمية متماسكة يُعتَمَد عليها على نطاق واسع، كما لا تزال التشريعات والحوافز الضرورية لتوسيع استخدام الدفع الرقمي محدودة، ما يدفع كثيرًا من التجار إلى تفضيل التعامل النقدي تفاديًا للعمولات والمخاطر التقنية".
وأشار الخوري أيضًا إلى توسّع الاقتصاد غير الرسمي بشكل كبير وانتقال جزء واسع من النشاط الاقتصادي إلى مساحات نقدية بالكامل، لافتًا إلى أن هذا التحوّل مرتبط بثقافة مالية تقليدية تفضّل التعاملات المباشرة والسريعة، لكنه تعمّق بفعل انهيار القدرة الشرائية وتقلبات الأسعار، حيث أصبح المال النقدي الأداة الأكثر توافقًا مع واقع يومي غير مستقر يسمح بالتسعير الفوري والتعامل بلا قيود أو مراقبة.
ويضيف الخوري إلى هذه العوامل الضغوط السياسية والمؤسسية المستمرة، إذ يفتقر لبنان إلى استقرار سياسي يسمح بإطلاق إصلاحات حقيقية في القطاع المالي. كما أن غياب خارطة طريق تنفيذية لإعادة الهيكلة، وتباطؤ الإصلاحات القضائية والتنظيمية، وتعطّل مؤسسات الرقابة، كلها عوامل دفعت القطاعات الاقتصادية والأسر إلى الاعتماد على الكاش كوسيلة عملية وسريعة في بيئة يغيب عنها اليقين وتتعثّر فيها السياسات العامة.
ويرى الخوري أن الاعتماد المفرط على الكاش شكّل بيئة خصبة لتفشّي الجريمة المنظمة، إذ يتيح التداول النقدي السريع وغير القابل للتتبع فرصًا واسعة للفساد وغسل الأموال وتمويل الأنشطة غير القانونية دون أن يترك أثرًا يمكن للسلطات الرقابية تعقبه. وفي بلد يسيطر فيه الاقتصاد غير الرسمي على جزء كبير من النشاط اليومي، تصبح الجرائم المالية جزءاً لا يتجزأ من النظام الاقتصادي، ما يعقّد جهود الانتقال إلى اقتصاد رسمي قابل لامتثال المعايير الدولية. ويعتبر الخوري أن السيولة النقدية غير المقيدة تسمح للجهات الإجرامية بالتحايل على الأنظمة المصرفية والتلاعب بالأسعار وإخفاء مصادر الأموال، ما يقلّل من فعالية القوانين ويعرقل تنفيذ السياسات المالية والنقدية. ونتيجة لذلك، يصبح أي مسعى لإرساء اقتصاد رقمي أو تعزيز الشفافية محدود التأثير ما لم تُتخذ إجراءات شاملة لمعالجة الجريمة المنظمة.
وفي ما يخص الخروج من الأزمة البنيوية، يرى الخوري أن ذلك يستدعي تبنّي رؤية طويلة الأجل تنقل الدولة من منطق إدارة الانهيار إلى منطق بناء الاستقرار البنيوي. ويبدأ هذا المسار بإعادة تأسيس مؤسسات الحكم على قواعد الاستقلالية والفعالية التي تحرّر صنع القرار من التعطيل السياسي. ويؤكد أن إصلاح القطاع المالي والمصرفي يمثّل خطوة مركزية في هذه الرؤية، ليس بوصفه استجابة تقنية للأزمة فحسب، بل كشرط لإعادة اندماج لبنان في الاقتصاد العالمي.
كما يتطلّب هذا المسار ترسيخ حياد عملي يسمح للبنان بتخفيف الارتباطات الصراعية ويعزّز قدرته على إدارة علاقاته الإقليمية والدولية من موقع دولة لا ساحة. ويشدّد الخوري على ضرورة تعزيز ثقافة المواطنة، وإصلاح المناهج التربوية، وتحديث الخطاب الإعلامي، وتوسيع المجال العام المدني، باعتبارها استثمارات تراكمية تؤسس لنمط جديد من العلاقة بين الفرد والدولة.
ويخلص الخوري إلى أن الجمع بين هذه العناصر في رؤية واحدة يضع لبنان على مسار مستدام يتجاوز منطق المعالجات الظرفية التي أدّت مرارًا إلى الأزمات. وتشير الأدبيات المقارنة حول الدول الخارجة من الانهيارات الممتدة إلى أن الانتقال الحقيقي يبدأ عندما تتقاطع الإصلاحات الاقتصادية مع إعادة بناء الدولة ومع التحوّل في الثقافة السياسية، في إطار يربط الاستقرار السياسي بالنمو الاقتصادي وبالهوية الوطنية الجامعة. بهذه المقاربة، يمكن تحويل اللحظة الحالية من أزمة بنيوية إلى نقطة انطلاق نحو مرحلة طويلة من الاستقرار المؤسسي والاقتصادي.
أميمة شمس الدين- الديار
The post هذه هي أسباب ازدياد الاعتماد على "الكاش".. وهذه تداعياته وسبل الخروج منه appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.
إقرأ المزيد


