بتوقيت بيروت - 10/29/2025 5:06:53 AM - GMT (+2 )

يكشف تحليل السياسات المالية لترامب عن مشروع لإعادة تشكيل الاقتصاد الأميركي وتثبيت الهيمنة بالدولار عبر الحمائية والابتزاز التجاري.
على الرغم من سلوكه غير المتّزن، يعكس اختزال سياسات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ولا سيما الاقتصادية منها، بكونها مجرّد «ممارسات جنونية» أو «شعبوية»، قصوراً في فهم تلك السياسات، وواقع الولايات المتحدة على الساحة العالمية اليوم. ولسياسات ترامب، المالية أقلّه، هدف واضح: إعادة تعريف النموذج الاقتصادي الأميركي القائم منذ أكثر من 60 سنة؛ فبالنسبة إلى الرئيس الأميركي، وبعض المحيطين به، أصبح الاستمرار في حالة رفع العجز التجاري مع كلّ دول العالم، من خلال المضيّ قدماً في استيراد السلع، مقابل تصدير الدولارات إلى الخارج، ثمّ طبع المزيد من تلك الدولارات لتجنّب أزمة مالية، أشبه باستراتيجية محفوفة بالمخاطر، ولا سيما في ظلّ ظهور تكتلات وقوى بديلة، قد تكون قادرة، وإنْ على المدى البعيد، على استبدال الدولار والحدّ من رغبة الدول في «تكديسه».
ومع أنّ النموذج المُشار إليه شكّل ركيزة أساسية من ركائز الهيمنة الأميركية، خصوصاً عبر ابتزاز الدول بالعقوبات، لكن، إذا قرّرت تلك الدول، في وقت ما، «بيع» جزء من دولاراتها، وإعادتها إلى الولايات المتحدة، على خلفية «انعدام الثقة» وتوفّر البدائل، ستواجه واشنطن، التي نشرت عملتها بشكل غير مسبوق تاريخيّاً في كلّ أصقاع الأرض، مشكلةً اقتصادية غير عادية. أمّا الهدف الثانوي لاستراتيجية ترامب، فيتمثّل، على الأغلب، في إعادة بناء جزء من القطاع الاقتصادي الأميركي، حيث يشكّل المواطنون «البيض»، ذوو الدخل المتوسط والمنخفض، قوّة انتخابية أساسية له، فضلاً عن كونهم الفئة الأكثر تضرّراً من تراجع القطاعَين الصناعي والزراعي.
وفي محاولة لتغيير الواقع المُشار إليه، ضرب ترامب بعقودٍ من سياسات «القوّة الناعمة» الأميركية عرضَ الحائط، ولجأ إلى القوّة «الخشنة» (العصا الغليظة)، القائمة على فرض تعرفات جمركية على العالم، ثم التفاوض مع كل دولة فيه على حدة، لانتزاع ما يمكن انتزاعه من تنازلات منها، من مِثل إجبارها على إعادة بعض الصناعات إلى الداخل الأميركي، أو تقليص عجزها التجاري، أو القبول بوضع واشنطن يدها على ثرواتها، ولا سيما المعادن النادرة. ومنذ اللحظة الأولى، لم تكن خافية (على ترامب) التبعات الاقتصادية لسياساته على الداخل الأميركي، إنْ لجهة زيادة التضخّم وارتفاع الأسعار، أو غيرها، لكنه أوضح أنه يعوّل على الأموال التي «سيجبيها» من التعرفات الجمركية غير المسبوقة، للحدّ من الخسائر المُشار إليها.
غير أنّ العنصر المفاجئ بالنسبة إلى الرئيس الأميركي، والذي يهدّد بـ«إطاحة» استراتيجيته على المدى الطويل، تمثّل في عدم استجابة بعض الدول، من مثل الصين، لـ«ابتزازات» البيت الأبيض، ما خلق نتائج عكسية في الداخل الأميركي، أسفرت عن تراجع «رضى» الناخبين عن رئيس بلادهم، واندلاع تظاهرات لم تشهد البلاد مثيلاً لها منذ عقود، على غرار احتجاجات «لا ملوك».
وتكشف العديد من الدراسات أنّ «الفجوة» بين خطاب ترامب والواقع، آخذة في الاتساع؛ إذ إنّ العديد من الناخبين الذين دعموه بناءً على وعود بالارتقاء بالطبقة العاملة، يواجهون، اليوم، ركوداً في الأجور وانعداماً في الأمان الوظيفي. ويُتوقّع أن يؤدّي انكماش القوى العاملة، بسبب القيود المفروضة على الهجرة، الشرعية وغير الشرعية، إلى تقليص النمو على المدى الطويل، في موازاة تفاقم نقص العمالة في القطاعات الرئيسية.
فعلى سبيل المثال، أفاد موقع «أكسيوس»، نقلاً عن دراسة أجريت أخيراً، بأنّه من المتوقّع أن تؤدّي حملة إدارة ترامب على الهجرة، إلى تقليص القوى العاملة في الولايات المتحدة بنحو 6.8 ملايين شخص بحلول عام 2028، وبنحو 15.7 مليوناً بحلول عام 2035، مشيراً إلى أنّ انخفاض عدد العمّال قد تكون له تأثيرات دراماتيكية على الاقتصاد الأميركي، بدءاً من تراجع النمو الاقتصادي، وصولاً إلى نقص السلع والخدمات التي تنتجها البلاد، فيما من غير المتوقّع أن يعوّض العمّال الجدد الذين سيدخلون سوقَ العمل، الفارق بشكل كامل، وفقاً لـ«المؤسسة الوطنية للسياسة الأميركية»، وهي مؤسسة فكرية مقرّها واشنطن، وتركّز على التجارة والهجرة.
وتتناقض المعطيات المُشار إليها مع رغبة ترامب في إحياء قطاع الصناعة، وهي تفسّر، كذلك، سبب ارتفاع عدد المهاجرين في «الدول المتقدّمة»، حتى في عهد المسؤولين الذين بنوا حملاتهم الانتخابية على أساس «محاربتها». وفي محاولة للإجابة على سؤال ما إذا كانت سياسات دونالد ترامب الجمركية، وخاصة الحرب التجارية بين بلاده والصين، التي بدأت في عام 2018، قد حقّقت نتائجها، أظهرت بعض الدراسات أنه «على عكس التقييمات السلبية بالكامل، ساهمت التعرفات الأميركية، بالفعل، في تكوين أعمال جديدة في الولايات المتحدة»، إلّا أنّها نوّهت، في المقابل، إلى أنّه «عندما تمّ تضمين التعرفات الانتقامية الصينية في التحليل، أصبحت الصورة أكثر تعقيداً، بعدما اتّضح أنّ تلك الإجراءات الانتقامية قد عوّضت، على الأرجح، بشكل كبير الآثار الإيجابية لسياسة ترامب».
من جهتها، أفادت شبكة «سي إن بي سي» الأميركية، نقلاً عن بيانات لشركة «تشالنجر غراي آند كريسماس»، بداية هذا الشهر، بأنّ معدّلات التوظيف في الداخل الأميركي، بلغت أدنى مستوى لها منذ عام 2009، بعدما بلغ إجمالي التعيينات الجديدة 204.939 فقط حتى الآن، بانخفاض 58% عن نفس الفترة من العام الماضي، وهو أدنى مستوى منذ عام 2009، عندما كان الاقتصاد الأميركي لا يزال في خضمّ الأزمة المالية. وطبقاً للمصدر نفسه، فإن مستوى التخطيط للتسريحات السنوية، حتى الآن، هو الأعلى منذ عام 2020، عام جائحة «كوفيد»، وأعلى بالفعل بنسبة 24% من عام 2024 بأكمله.
وفي أيلول، نشرت «لوموند» الفرنسية تقريراً جاء فيه أنّه «بعد ستة أشهر من بدء الرئيس دونالد ترامب حرباً تجارية، أظهرت غالبية مؤشرات الاقتصاد الكلّي، التي يعتمد عليها المحلّلون، علامات واضحة على الهشاشة، ترتبط ارتباطاً مباشراً بسياسات البيت الأبيض، ما أجبر الاحتياطي الفدرالي على خفض أسعار الفائدة الرئيسية». وفي خضمّ تحقيق وول ستريت وسائر قطاعات التكنولوجيا أرباحاً ضخمة، لفتت الصحيفة إلى أنّ بعض الاقتصاديين يتساءلون ما إذا كانت سياسة ترامب ستخلق فجوة «بين الاقتصاد التقليدي الذي يتراجع تحت وطأة التعرفات الجمركية، والاقتصاد الحديث الذي يحطّم الأرقام القياسية بسرعة، مدفوعاً بوعود الثورة التكنولوجية»، مع الإشارة إلى أنّ العلامات السلبية تتراكم لصالح الحجة المُشار إليها.
وإذ بلغ معدّل التضخم السنوي لهذا العام نحو 3%، نقلت الصحيفة عن جيل مويك، كبير الاقتصاديين في شركة التأمين «أكسا»، قوله إنّ الغالبية العظمى من الاقتصاديين اعتقدت بأنّ الحرب التجارية ستأتي على حساب الاقتصاد الأميركي، لكنّ بعض المراقبين كانوا يلمّحون إلى «احتمال حدوث نقلة نوعية، وإمكانية استيعاب التعرفات الجمركية». وتابع: «التضخّم ارتفع مرة أخرى وعلى نطاق واسع، وهذا أمر لا جدال فيه».
وبصورة أعمّ، لم يخفّض المصدّرون الأجانب أسعارهم لاستيعاب الرسوم الجمركية، كما كان يأمل ترامب. وبدلاً من ذلك، تحمّلت الشركات المستوردة الأميركية معظم التكاليف من خلال خفض هوامش ربحها، ولا سيما في قطاع السيارات، طبقاً للصحيفة نفسها، التي اعتبرت أنه «لا يمكن للوضع أن يستمرّ كما هو عليه لفترة طويلة».
وأظهرت الأرقام المنشورة في أيلول، أن خلق فرص العمل ظلّ راكداً تقريباً لعدّة أشهر، فيما كان الضحايا الرئيسيون هم الشباب، الذين طالت فترة بحثهم عن عمل، وفقاً لدراسة أجراها «بنك غولدمان ساكس». وتشمل القطاعات التي تواجه مشاكل، التصنيع، حيث يشغل الرجال معظم الوظائف، في حين أن مهنتَي الرعاية الصحية والتمريض، اللتين تشغلهما النساء، المهاجرات بشكل رئيسي، هما اللتان تشكّلان عنصراً داعماً في خضمّ النمو الضعيف.
واللافت، أنّ الولايات المتحدة تبدو بحاجة حتى إلى «المهاجرين غير الشرعيين»؛ إذ كشف تقرير لـ«أكسيوس»، أخيراً، أنّ مداهمات الهجرة في وادي كوتشيلا في كاليفورنيا، وهو المصدر الرئيسي لمنتجات البلاد، أدّت إلى قلب الحياة اليومية رأساً على عقب، بعدما منعت الآباء من الذهاب إلى الحقول، والأطفال من الذهاب إلى المدارس، والعديد من الأسر من التجمّع في منازل مشتركة، على خلفية عدم حيازتهم الوثائق المطلوبة. وتوظّف تلك المنطقة، طبقاً للموقع، عشرات الآلاف من عمال المزارع، وتدرّ مليارات الدولارات سنوياً، كما تنتج المحاصيل خلال أشهر الشتاء عندما لا تكون المناطق الأخرى قادرة على ذلك، ما يساعد على استقرار الإمدادات الغذائية الوطنية.
إقرأ المزيد


