ورقة الغاز الإسرائيلية: ضغوط على مصر لقبول تهجير الغزيين!
لبنانون فايلز -

على الرغم من كونها قضية حيوية تمس حياة عشرات الملايين من المصريين، وتؤثر في مستقبل الاقتصاد المصري، إلا أن أزمة الغاز الطبيعي في مصر تتداخل مع غيرها من القضايا في ظل التحولات الإقليمية المتسارعة في الشرق الأوسط. وإذا وضعنا هذه الأزمة في سياقٍ أشمل، فسنجد أنها ليست منعزلة عن ظواهر عدة تبرز في الفلك المصري، تبدو للوهلة الأولى منفصلة عن بعضها البعض، لكنها في الواقع تشكل كلًا موحدًا من منظور ديالكتيكي جيوسياسي.

يتلاقى كل من المخطط الإسرائيلي لتهجير سكان غزة إلى سيناء، وتزايد حجم انتشار الجيش المصري في سيناء ليبلغ 42 ألف جندي في خرق مصري لاتفاقية كامب ديفيد ردًا على الخروقات الإسرائيلية الكبيرة، وأخطرها سيطرة إسرائيل على محور فيلادلفيا وتدميرها الجزء الفلسطيني من معبر رفح، وتعقيدات اتفاقيات الغاز الضخمة بين مصر وإسرائيل والاتحاد الأوروبي، والتحديات التي تواجه مشاريع مصر للاستثمار في غاز البحر المتوسط، وضغوطات إسرائيل على مصر من بوابة سد النهضة الإثيوبي، ليشكّل كل ذلك معادلة تهدّد اتفاقية كامب ديفيد والاتفاقيات اللاحقة المرتبطة بها بالانهيار. ولعلّ أزمة الغاز التي ينتج عنها تزايد ارتهان مصر لإسرائيل هي الأكثر راهنية على الصعيد الاقتصادي، حيث تهدّد قدرة مصر على مواجهة التحديات الكبيرة على المستويين الداخلي والخارجي.

تراجع كبير في الإنتاج

تعاني مصر من اختلالٍ في التوازن الغازي، حيث شهد إنتاج الغاز الطبيعي تراجعًا سنويًا ملحوظًا منذ العام 2022، بعدما بلغ ذروته في العام 2021 ليصل إلى 70.308 مليار متر مكعب وفقًا لمنظمة «أوبك»، وذلك رغم احتلال مصر للمركز الرابع أفريقيًا في احتياطيات الغاز الطبيعي، التي بلغت 2.209 تريليون متر مكعب وفقًا لتقرير منظمة «أوبك» السنوي لعام 2024، ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى عدم ضخ استثمارات جديدة لتطوير القطاع.

انخفض إنتاج الغاز على التوالي في العام 2022 إلى 64.5 مليار متر مكعب، وفي العام 2023 إلى 57.1 مليار متر مكعب، وفي عام 2024 إلى 49.37 مليار متر مكعب، بنسبة مقدارها 29.9% خلال 4 سنوات. واستمر التراجع في الإنتاج، حيث انخفض وفقًا لوحدة أبحاث الطاقة إلى 21.13 مليار متر مكعب خلال النصف الأول من العام الجاري، مقارنة بـ 26.06 مليار متر مكعب في النصف الأول من العام السابق، بنسبة مقدارها 18.9%.

تراجع الصادرات وزيادة الواردات

ارتفعت صادرات الغاز المصري أكثر من 13 ضعفًا في العام 2021 مقارنة بالعام 2013، مسجلةً ارتفاعًا في الإيرادات بلغ 7.4 مليار دولار، مستفيدةً من الحرب في أوكرانيا وزيادة الطلب الأوروبي والارتفاع الحاد في أسعار الغاز عالميًا. إلا أن هذا الانتعاش لم يدُم طويلًا بسبب التراجع الكبير في الإنتاج. فتحوّلت مصر من التصدير إلى الاعتماد على الاستيراد لتلبية الاستهلاك المحلي، حيث تشير التوقعات، وفقًا لمصادر وكالة "بلومبرغ"، إلى أن فاتورة الواردات ستبلغ في العام 2025 حوالي 20 مليار دولار.

في هذا السياق، جاءت اتفاقيات استيراد الغاز المسال مع الولايات المتحدة، التي شكلت المصدر الأكبر لواردات مصر في النصف الأول من العام الجاري. في حين كانت أضخم الاتفاقيات مع إسرائيل للاستيراد عبر خط الأنابيب البحري (العريش-عسقلان)، وخط الأنابيب البري (نيتسانا) بعد توسعة حقل "ليفياثان"، حيث بلغت قيمة الاتفاقية 35 مليار دولار، وهي تمتد حتى العام 2040، وذلك وفقًا لشركة "نيو ميد إنرجي" الإسرائيلية.

وكانت مصر تخطط لتوقيع عقود طويلة الأجل لاستيراد الغاز من قطر، بعد زيارة وزير البترول والثروة المعدنية المصري كريم بدوي إلى قطر ولقائه بوزير الدولة لشؤون الطاقة القطري سعد بن شريده الكعبي في 12 أيار/مايو 2025، إلا أن الضغط الأميركي حينذاك على قطر حال دون ذلك، فلجأت مصر إلى استيراد الغاز الإسرائيلي لتلبية الزيادة الكبيرة في الطلب المحلي. ويبلغ حجم استيراد مصر للغاز الإسرائيلي نحو 1.1 مليار قدم مكعب يوميًا، ومن المتوقع أن يرتفع إلى نحو 1.2 مليار قدم مكعب يوميًا في مطلع العام المقبل، بناءً على التعديلات الأخيرة في تموز/يوليو الماضي على الاتفاق الموقع بين مصر وإسرائيل.

زيادة في الاستهلاك المحلي

إضافة إلى التراجع الكبير في الإنتاج، ساهمت الزيادة في الطلب المحلي على الغاز الطبيعي في الضغط على الحصة المصدَّرة. إذ يستحوذ الطلب على الكهرباء على أكثر من 56% من استهلاك الغاز الطبيعي في مصر، وفقًا للوزير الأسبق للبترول والثروة المعدنية أسامة كمال، وهو مرجّح للازدياد سنويًا في ظل موجات الحر الشديدة وتزايد استخدام أجهزة التكييف والتبريد بسبب ارتفاع متوسط درجة الحرارة العالمية، حيث تتوقع المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) ارتفاعها بين العامين 2025 و2029 إلى نحو درجتين مئويتين. وفقًا لوحدة أبحاث الطاقة، فقد بلغ استهلاك الغاز في توليد الكهرباء 35.16 مليار متر مكعب في عام 2023، وارتفع إلى 36.05 مليار متر مكعب في عام 2024، ما يدل على زيادة مستمرة في الطلب على الكهرباء.

وقد برزت الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك في إمدادات الغاز محليًا في العام 2023، فتحوّل الفائض المعدّ للتصدير لخدمة الاستهلاك المحلي، تزامنًا مع استمرار انخفاض حجم الإنتاج، ما هدّد قدرة مصر على تلبية الاحتياجات المحلية. فقد سُجِّل في العام 2023 عجزٌ بلغ نحو 3 مليارات متر مكعب، ثم اتسعت الفجوة في العام 2024 ليبلغ العجز 12 مليار متر مكعب، وفقًا لأرقام معهد الطاقة البريطاني (EI).

إشكالية اتفاق تصدير الغاز الإسرائيلي

اتفاقية تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر، الموقّعة في العام 2019 والمعدلة في 2025، تربط بين بلدين يشهدان توترًا غير مسبوق في العلاقات. فمن جهة، تفرض الأحداث الجارية في غزة نفسها، حيث تحاول إسرائيل تهجير سكان القطاع إلى سيناء، بدءًا بنقلهم جماعيًا إلى مدينة رفح. ومن جهة أخرى، بدأت المنطقة تشهد تحولات جيوسياسية ملحوظة بعد عامين على بدء الإبادة الجماعية في غزة ردًا على عملية "طوفان الأقصى"، وانفلات إسرائيل لتبدأ بتهديد الأمن القومي لجميع دول المنطقة. تحولات تلعب مصر دورًا فيها، إلى جانب تركيا ودول التعاون الخليجي وإيران. لسلوك مصر في هذا السياق طابع ردّ الفعل على حصار غازي ومائي وتهديد مباشر للأمن القومي، بدأت ملامحه تتشكّل بوضوح. وفي الوقت نفسه، تعجز مصر عن الفكاك من اتفاقياتها مع إسرائيل، خاصة اتفاقية استيراد الغاز، فيما تحاول الهيئة العامة المصرية للبترول توقيع اتفاقيات جديدة مع عدد من شركات النفط والغاز العالمية للكشف عن حقول جديدة وحفر الآبار وزيادة الإنتاج، وكان آخرها ثلاث اتفاقيات وُقِّعَت قبل أيام قليلة باستثمارات تبلغ 121 مليون دولار، بهدف حفر 20 بئرًا جديدة واستكشاف 5 مناطق جديدة.

تعليق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بقوله: "إحنا جِبنا جول يا مصريين في الموضوع ده" في العام 2018، على إقرار اتفاقية استيراد الغاز الإسرائيلي التي جرى توقيعها لاحقًا في العام 2019، كان يعكس مخططًا مصريًا للاستفادة من إنتاج حقل "ظهر" للغاز الطبيعي لتصديره إلى الخارج، والاستفادة من التباين في أسعار الغاز عالميًا بسبب تكاليف التسييل والنقل. فمقابل تلبية الاحتياجات المحلية من الغاز الإسرائيلي المُستورَد بسعر 5.5 دولارات لكل مليون وحدة حرارية في العام 2019، وهو أقل من متوسط سعر السوق العالمية آنذاك، كانت مصر تُصدِّر الغاز المسال إلى دول أخرى، خاصة في الاتحاد الأوروبي، بأسعار أعلى، محققةً بذلك أرباحًا ساعدتها في سداد جزء كبير من المستحقات المتأخرة لشركات النفط الأجنبية العاملة في قطاع النفط والغاز، والتي بلغ إجماليها 8.5 مليار دولار، ولم يتبقَّ منها سوى نحو 2.5 مليار دولار حاليًا. غير أن هذه المعادلة تغيّرت بعدما فرضت إسرائيل على مصر تعديل الاتفاقية، عبر الضغط بقطع الإمدادات مرات عديدة، بما في ذلك خلال التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران في حزيران/يونيو الماضي. فأصبحت مصر تستورد الغاز الإسرائيلي بموجب الاتفاقية المعدلة بسعر 7.67 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، فيما تضاعف حجم الصادرات الإسرائيلية إلى مصر أيضًا.

الإشكالية الخطيرة هنا تكمن في استخدام إسرائيل للاتفاقية كورقة ضغط على مصر لدفعها إلى قبول مخطط تهجير سكان غزة إلى سيناء، وهو ما قابلته مصر بمضاعفة قواتها العسكرية هناك، ما أثار غيظ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي لمّح إلى خرق مصر لاتفاقية السلام. وبالنسبة للرأي العام العربي، فإن تعديل هذه الاتفاقية وإعادة تفعيلها وسط الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة يُعدّ انهيارًا أخلاقيًا وقيَميًا. إلا أن مصر تنازع على أكثر من صعيد في قضايا تمس بأمنها القومي والغذائي والمائي والطاقوي، وهي معرّضة لسيناريوهات بالغة الخطورة. لذلك، وبعد أن عرقلت التدخلات الأميركية الجهود المصرية لاستيراد الغاز من مصادر بديلة عن إسرائيل، تعوّل مصر على زيادة الاستثمار في قطاع النفط والغاز لتتمكن من تلبية احتياجاتها المحلية والعودة إلى تحقيق فائض تصديري. لعلّها بذلك تتمكن من التخلص من هذه الاتفاقية التي تمثل إحدى أدوات إسرائيل لتقييد القرار السياسي المصري قبل عالام 2040، أو تحقيق استقرار كافٍ في القطاع يحميها من العودة إلى فخ الاعتماد على الغاز الإسرائيلي بعد ذلك التاريخ.

هاني عضاضة - المدن

The post ورقة الغاز الإسرائيلية: ضغوط على مصر لقبول تهجير الغزيين! appeared first on أخبار الساعة من لبنان والعالم بشكل مباشر | Lebanonfiles | ليبانون فايلز.



إقرأ المزيد