آيم-لبنانون - 11/23/2025 6:33:34 AM - GMT (+2 )
كتب إيليا مغناير في “الراي الكويتية”:
على مدى عقدين تقريباً، عاش لبنان في ظل معادلة هشة، قوامها صراعٌ لم يُحسم بعد مع إسرائيل، وقدرة دولة محدودة… وحركة مقاومة.
وتتعرض هذه المعادلة لضغوط متجددة مع تكثيف الهجمات الإسرائيلية، ومحاولات الخطاب السياسي في واشنطن لإعادة صياغة ديناميكيات الأمن الداخلي في لبنان من خلال روايات انتقائية. في حين يتطلب الفهم الواضح للوضع الراهن التمييز بين أدوار «حزب الله»، والجيش والدولة اللبنانية، وإدراك سعي الجهات الخارجية الدؤوب لمعاودة تشكيل هذه الأدوار لصالح إسرائيل.
قبل حرب 2024 على لبنان، اعتمد «حزب الله» في شكل أساسي على «الردع بالرواية». وروج لفكرة أن محور المقاومة يعمل كجبهة منسقة بإحكام، حيث إن أي تهديد لأحد الأطراف من شأنه أن يُثير رد فعل جماعياً.
عملياً، لم يكن هذا المحور، قيادة موحدة قط، بل كان موقفاً نفسياً يهدف إلى إبراز التماسك وثني إسرائيل عن شن حرب شاملة. إنهار هذا السرد في السابع من أكتوبر 2023، عندما شنت «حماس» عملية «طوفان الأقصى»، بينما اقتصرت مشاركة «حزب الله» على نشاط مُحكم على طول الحدود، ورفضت سوريا الإنجرار إلى الصراع، ولم ترسل الفصائل العراقية سوى طائرات مُسيّرة رمزية قبل أن توقف مشاركتها.
أما الحوثيون في اليمن، فكانوا الطرف الوحيد الذي استمر في إطلاق الطائرات المُسيّرة والصواريخ في جهد رمزي، كان أثره الإستراتيجي مالياً بالأساس نظراً لعدم وجود تواصل إقليمي حدودي مع إسرائيل التي لم تعدل خططها الحربية جراء هذه الهجمات.
كانت صواريخ «حزب الله» بعيدة المدى والدقيقة كافية لردع إسرائيل لمدة 18 عاماً، منذ عام 2006. أشار رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بنفسه إضافة إلى وزير دفاعه يوآف غالانت، أثناء حرب غزة، إلى عدد المباني في تل أبيب التي يُمكن تدميرها في حال إندلاع حرب مع «حزب الله». ومع ذلك، فإن الخرق الأمني الذي أعقب ذلك أتاح لإسرائيل فرصة غير مسبوقة لتحديد وتدمير جزء لا يستهان به من ترسانة الحزب بعيدة المدى.
فوجئ «حزب الله» وتم تخريب أجهزة النداء، وأجهزة الإتصال اللاسلكي، والألواح الشمسية، والكاميرات الرقمية، وأنظمة الكترونية أخرى لم يكشف عنها. أُصيب نصف وحداته الصاروخية. إغتيل الأمين العام السيد حسن نصرالله وخلفاؤه المعينون. دُمر أكثر من ثلاثين في المئة من مستودعاته. وتعرضت بيانات إتصالاته ومواقعه للإختراق. كما قُضي على عدد كبير من أعضاء المجلس الجهادي وقادة الوحدات. ورغم ذلك، لم تتمكن إسرائيل من التقدم أكثر من بضعة مئات الأمتار في جنوب لبنان ولم تبت قواتها ليلة واحدة داخل الحدود اللبنانية.
فقد «حزب الله» القدرة على إلحاق الأذى المتواصل بإسرائيل على المدى الطويل من خلال حرب الصواريخ وضغط الظروف الداخلية. ويواجه الحزب حكومةً وبيئةً داخليةً يعتبرها معاديةً في شكل متزايد نظراً لأن شريحةً كبيرةً من السكان تطالب بنزع سلاحه وتدعم التواصل إلى إتفاقية سلام مع إسرائيل، حتى في ظل استمرار احتلال القوات الإسرائيلية للأراضي اللبنانية ورفضها التفاوض.
في الوقت عينه، تلقت الحكومة اللبنانية تحذيراتٍ مباشرة من إسرائيل، عبر الولايات المتحدة، لمنع أي هبوطٍ للطائرات الإيرانية، ولقطع جميع المساعدات المالية الإيرانية لإعادة الإعمار أو لـ«حزب الله». وفي ظل غياب أي مصدر بديلٍ قابلٍ للتطبيق لتمويل إعادة الإعمار، وعجز الدولة عن إعادة بناء ما دمرته الضربات الإسرائيلية، يُدرك الحزب أن تبادل إطلاق الصواريخ مع إسرائيل سيؤدي إلى تدمير آلاف المنازل اللبنانية الإضافية، من دون أي أملٍ في إعادة بنائها في المستقبل المنظور. لهذا السبب، يُحجم عن استخدام قدراته الصاروخية تحسباً لسيناريو يتحول فيه لبنان، غزة أخرى.
ومع ذلك، قصفت إسرائيل سوريا لمدة 14 عاماً، مما أدى إلى إضعاف جيشها تدريجياً تحت حكم بشار الأسد، وواصلت هذا الدمار مع النظام الجديد. إذا استمرت إسرائيل في وتيرة ضرباتها الحالية على لبنان، فقد تُكرر على مدى سنوات عدة حجم الدمار الذي كانت ستُحدثه في غضون أيام قليلة إذا رد «حزب الله» على نطاق واسع.
لا يستطيع الحزب صدّ الضربات الجوية الإسرائيلية. لا يمتلك أي طرف دفاعات جوية قادرة على تحييد سلاح الجو الإسرائيلي. ما يستطيع الحزب فعله، وقد أثبت مراراً منذ عام 2006، هو فرض تكاليف باهظة عندما تحاول القوات البرية الإسرائيلية دخول الأراضي اللبنانية.
تتمثل الإستراتيجية الأساسية لـ«حزب الله» في العمق اللبناني وليس عبر الحدود ولن يهدف إلى إيقاف القوات الإسرائيلية على الحدود لمنعها من التقدم في الحروب المستقبلية. وسيهدف إلى جرها إلى مناطق تفقد فيها مزاياها التكنولوجية من دروع ورؤية وقدرتها على المناورة. في هذا العمق، فـ«حزب الله» يملك القدرة على استخدام الاستنزاف والكمائن وشبكات الدفاع المحصنة واستهداف الوحدات المتقدمة أو أسرها لتحويل أي غزو إلى نكسة إستراتيجية لإسرائيل. يتجذر هذا النهج في الواقع الجغرافي والاجتماعي والعسكري لجنوب لبنان، حيث طورت المقاومة بنية رادعة لا تمتلكها الدولة اللبنانية ولا تستطيع محاكاتها.
ولكن الجيش اللبناني يعمل على مستوى مختلف. مهمته هي حماية البلاد، والحفاظ على الاستقرار، ودعم القرارات السياسية للدولة. ومع ذلك، لا يمكن مطالبته بالعمل كدرع لحدود إسرائيل أو كحاجز في وجه المقاومة عندما يفتقر إلى الوسائل اللازمة لمواجهة جيش إسرائيلي مدرب وممول من الولايات المتحدة. وتؤكد الموارد التي تقدمها واشنطن للجيش اللبناني هذا الخلل. فمعظم الأسلحة الموردة مناسبة لمهام الأمن الداخلي، وليست للدفاع عن الأراضي الوطنية ضد قوة عسكرية إقليمية.
وقد صرّح المبعوث الأميركي توم براك بوضوح في وقت سابق من هذا العام بأن المنح الأميركية للجيش اللبناني لا يُقصد استخدامها ضد إسرائيل، ليس فقط لأن هذه الأسلحة لا تُضاهيها، بل إنها مصممة لتعزيز السيطرة الداخلية ومواجهة «حزب الله».
وقد رفض الجيش باستمرار الدخول في صراع أهلي، وأكد مراراً أن مهمته ليست المشاركة في أي مواجهة مدمرة داخلياً. لم يمنع هذا الأمر السياسيين الأميركيين من انتقاد الجيش لإصداره بيانات تندد بالانتهاكات الإسرائيلية.
وخلال جلسات الاستماع الأخيرة، اتهم أعضاء في الكونغرس الأميركي الجيش اللبناني بزعزعة استقرار المنطقة لمجرد اعترافه بما وثقته تقارير الأمم المتحدة لأعوام، إذ وفقاً لبيانات «اليونيفيل» الأخيرة، أطلقت إسرائيل النار على مواقع للأمم المتحدة، وانتهكت المجال الجوي اللبناني وسيادته آلاف المرات، وتسببت في مقتل ما يقل قليلاً عن 400 لبناني منذ وقف الأعمال العدائية قبل عام. هذه ليست اتهامات سياسية، بل حقائق موثقة سجلها مراقبون دوليون.
ومع ذلك، عندما يصدر الجيش اللبناني تقييماً واقعياً لهذه الانتهاكات، فإنه يصبح هدفاً للضغط السياسي الأميركي.
أكد بيان الجيش الأخير رغبته في المساهمة في استقرار الجنوب والوفاء بالتزاماته بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1701. وقد فعل ذلك مع إدراكه لقدراته المحدودة.
في المقابل، تجاهلت إسرائيل باستمرار هذا القرار وواصلت انتهاكاتها شبه اليومية للمجال الجوي اللبناني، والعمليات الاستخباراتية داخل لبنان، وشنت ضربات تقوض الأمن المدني والتفويضات الدولية. إن توقع قيام الجيش بتطبيق قرار ترفض إسرائيل نفسها احترامه يضع المؤسسة في موقف مستحيل. يُطلب منها ضمان اتفاق يُتهم طرف واحد فقط بخرقه.
لذا، يكشف السياق الحالي عن واقع أوسع. تسعى الولايات المتحدة إلى تشكيل البنية الأمنية اللبنانية بطريقة تحمي إسرائيل مع تعطيل الآليات ذاتها التي تمنع تل أبيب من توسيع عملياتها على الأراضي اللبنانية. يتجاهل هذا النهج القيمة الإستراتيجية للردع، والإنتهاكات المتكررة، والقيود الصارمة المفروضة على الجيش اللبناني.
والنتيجة هي سردية سياسية تُلقي باللوم على المؤسسة غير المناسبة، وتُقلل من شأن العدوان، وتضغط على لبنان للتخلي عن الأدوات الوحيدة التي يملكها للحفاظ على سلامة أراضيه.
يعتمد استقرار لبنان على فهم واقعي للقوة والسيادة والردع. لا يستطيع الجيش خوض حرب ضد أحد أقوى الجيوش في الشرق الأوسط ولا يستطيع «حزب الله» إيقاف القوة الجوية، لكنه يستطيع منع غزو من أن يصبح مستداماً أو مجانياً. لا يمكن للدولة إجبار المحتل على احترام القانون الدولي ما لم تحتفظ برادع واحد على الأقل ذي مصداقية.
إقرأ المزيد


